لى ارتفاع يقارب العشرين متراً فوق سهول إدلب الخصبة، يقف تل آفس شامخاً كحارسٍ صامتٍ يحمل بين طباقاته أسرار حضارات عريقة، على بُعد نحو عشرين كيلومتراً غرب مدينة إدلب في شمال غرب سوريا. إنه ليس مجرد موقع أثري، بل هو شاهد حي على حياة امتدت آلاف السنين في منطقة سهل الجزر، تلك البقعة التي تكتسي بالخيرات من الحبوب والزيتون.
بدأت رحلة التنقيب عن أسرار تل آفس في سبعينيات القرن العشرين، عندما وصل البروفيسور باولو ماتييه من جامعة روما عام 1970، حاملاً في يديه مفاتيح الماضي، ليبدأ مع فريقه حفر طبقات الأرض وكشف أسرارها. أعقبته حفريات في أعوام 1972 و1978، ثم تولت البروفيسورة ستيفانيا ماتسوني من جامعة بيزا عام 1986 قيادة مشروع مشترك مع جامعة بولونيا، مستمرة في الكشف حتى عام 2010.
ما اكتشفته الحفريات هو عشرة طبقات أثرية، كل واحدة منها تحكي قصة زمنية مختلفة، تمتد من العصر الحجري النحاسي حيث كانت تحيط بالسور دفاعات قوية ويُصنع الفخار بأدق تفاصيله، إلى حياة الناس في عصر البرونز القديم، وازدهار المدينة في العصر البرونزي الوسيط مع تحصيناتها المتقنة، وصولاً إلى التطورات المعمارية والتحصينات المتقدمة ومشاغل صناعة الفخار والصوان في عصر الحديد. هذه الطبقات المتعاقبة ترسم تطوراً حضرياً متكاملاً على مدار آلاف السنين.
في أوائل القرن العشرين، اكتشف القنصل الفرنسي في حلب نصباً تذكارياً آرامياً يعود للملك زكور من حماة، وهو محفوظ اليوم في متحف اللوفر بباريس. ويعتقد كثير من الباحثين أن تل آفس هو موقع مدينة حزريك الآرامية، رغم وجود آراء أخرى ترجح موقعها في سهل الغاب غرب محافظة حماة.
لكن هذا التاريخ العظيم لم يكن بمنأى عن التهديدات، ففي عام 2013 تعرض الموقع لأضرار بسبب حفريات غير قانونية أزالت بعض أحجار المعبد، مما أثر على بنيته المعمارية. وأوصت الجمعية الأمريكية للبحوث في الشرق الأدنى (ASOR) بضرورة إقامة سياج طارئ وتنفيذ مسح LiDAR لمساعدة الموقع على الوقوف من جديد وحمايته من مزيد من الأضرار.
تل آفس إذاً ليس مجرد شاهد على ماضٍ بعيد، بل هو حكاية مستمرة تحتاج إلى عناية وحماية، من خلال توظيف التقنيات الحديثة وتفعيل دور المجتمع المحلي، ليظل إرثاً ثقافياً نابضاً يحكي قصة الأرض والإنسان على مر العصور.